فصل: (سورة التوبة: الآيات 126- 127)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَثَمَّ مَفْسَدَةٌ أُخْرَى فِي هَذِهِ الْإِشَاعَةِ وَهِيَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ وَالْكُفَّارَ يُذِيعُونَ فِيهَا مَا شَاءُوا مِنَ التُّهَمِ الْبَاطِلَةِ وَالْإِفْكِ الْمُفْتَرَى، كَزَعْمِهِمْ أَنَّهُ إِنَّمَا قَتَلَ مَنْ ظَهَرَ لَهُمْ مِنْهُ مَا دَلَّهُمْ عَلَى بُطْلَانِ دِينِهِ بَعْدَ أَنْ صَدَّقُوهُ وَجَاهَدُوا مَعَهُ.
عَلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ فِيهِمْ بَعْدَ وَصْفِهِمْ بِالْكُفْرِ بِالْقَوْلِ وَبِالْهَمِّ بِشَرِّ نَتَائِجِهِ مِنَ الْفِعْلِ {فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} (9: 74). الْآيَةَ، فَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُ الْآيَةِ وَمَا قَبْلَهَا مِنَ الْأَمْرِ بِجِهَادِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فِي (ص473- 481 ج10 ط الْهَيْئَةِ).
وَيْلِي هَذَا فِي السُّورَةِ خَبَرُ الَّذِي عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَاهُ مِنْ فَضْلِهِ لَيَصَّدَّقَنَّ (فِي الْآيَاتِ 75- 77) وَمَا رَوَوْا فِي سَبَبِ نُزُولِهَا خَاصَّةً وَأَنَّهُ شَخْصٌ يُقَالُ لَهُ ثَعْلَبَةُ، وَأَنَّهُ بَعْدَ أَنْ نَزَلَتْ فِيهِ الْآيَاتُ تَابَ وَأَرَادَ أَنْ يُؤَدِّيَ زَكَاةَ مَالِهِ فَلَمْ يَقْبَلْهَا مِنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ لَمْ يَقْبَلْهَا مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ وَلَا عُثْمَانُ مِنْ بَعْدِهِ، وَأَنَّهُ هَلَكَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِهَا أَنَّ فِي حَدِيثِ سَبَبِ نُزُولِهَا إِشْكَالَاتٍ فِي سَنَدِهِ وَفِي مَتْنِهِ فَإِنَّهُ مُخَالِفٌ لِأَصْلِ الشَّرِيعَةِ الْقَطْعِيِّ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ بِالظَّاهِرِ، فَهُوَ بَاطِلٌ قَطْعًا بِمَا فَصَّلُوهُ بِهِ تَفْصِيلًا (رَاجِعْ تَفْسِيرَ ص481- 484 ج10 ط الْهَيْئَةِ).
وَيَقْرُبُ مِنْهُ فِي الْمَعْنَى مَا رُوِيَ فِي الصِّحَاحِ مِنْ نُزُولِ قوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} (9: 84) وَأَنَّهُ فِي عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ زَعِيمِ الْمُنَافِقِينَ الْأَكْبَرِ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِهَا مَا فِي الْحَدِيثِ مِنَ التَّعَارُضِ مَعَ الْقُرْآنِ فَرَاجِعْهُ (فِي ج10 تَفْسِيرٌ).
وَمِنَ الْمُشْكَلِ فِي هَذَا الْبَابِ قِصَّةُ مَسْجِدِ الضِّرَارِ فِي الْآيَاتِ (107- 110) فَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِيهَا أَنَّهُمُ اتَّخَذُوهُ لِأَرْبَعَةِ أَغْرَاضٍ مِنْهَا الْكُفْرُ وَسَائِرُهَا أَقْبَحُ مَقَاصِدِ أَعْدَاءِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ. وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِهَدْمِهِ فَهُدِمَ وَلَمْ يَأْمُرْ بِقَتْلِهِمْ، وَقَدْ شَهِدَ اللهُ بِكَذِبِهِمْ فِيمَا حَلَفُوا عَلَيْهِ مِنْ حُسْنِ نِيَّتِهِمْ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ بَنَوْهُ لِلْمَقَاصِدِ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَاتِ كَانُوا كَمَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ مُنَافِقِي الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ أَتْبَاعِ أَبِي عَامِرٍ الرَّاهِبِ الَّذِي وَعَدَهُمْ بِأَنْ يَتَوَسَّلَ بِنَصْرَانِيَّتِهِ إِلَى قَيْصَرِ الرُّومِ وَالشَّامِ فَيُرْسِلَ مَعَهُ جُنْدًا يَكْفِيهِمْ أَمْرَ الرَّسُولِ وَمَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَكِنَّ صِدْقَهُمْ فِي ظَاهِرِ عَمَلِهِمْ وَمَا زَعَمُوهُ مِنْ حُسْنِ النِّيَّةِ فِيهِ- كَثِيرٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَشَارَكُوهُمْ وَصَلَّوْا مَعَهُمْ فِيهِ، وَكَانَ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمْ مُتَعَذِّرًا، فَصَحَّ أَنْ يَأْتِيَ فِي الْفَرِيقَيْنِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْمُسْلِمِينَ الْمُسْتَخْفِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ: {لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (48: 25).
وَالسَّبَبُ الْخَاصُّ لِعَدَمِ عِقَابِ أَصْحَابِ مَسْجِدِ الضِّرَارِ عَلَى الْكُفْرِ الَّذِي أَثْبَتَهُ النَّصُّ الصَّرِيحُ- أَمْرَانِ:
(أَحَدُهُمَا) أَنَّ الْآيَاتِ فِي قِصَّتِهِمْ قَدْ بُدِئَتْ بِمَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُهُمْ فِيهَا مَعْطُوفًا عَلَى الَّذِينَ أَرْجَأَ اللهُ الْبَتَّ فِي أَمْرِهِمْ وَجَعَلَ التَّوْبَةَ عَلَيْهِمْ مَرْجُوَّةً، وَهُوَ قوله تعالى: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} (9: 106) وَالثَّانِي خَتَمَ قِصَّتَهُمْ بِقوله تعالى: {لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (9: 110) فَيَظْهَرُ فِي مَعْنَى {تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمُ} احْتِمَالٌ هُوَ أَحَدُ الْأَقْوَالِ فِي تَفْسِيرِهِ، وَهُوَ تَقَطُّعُهَا مِنَ الْأَسَفِ وَالْحُزْنِ عَلَى مَا فَرَطَ مِنْهُمْ، وَوُقُوعُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ مُحْتَمَلٌ، وَإِذًا يَكُونُ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ عَلَى تَوْبَتِهِمْ وَأَصْدَقِهَا، وَيَكْفِي الِاحْتِمَالُ لِمَنْعِ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ سِيَاسَةَ الْإِسْلَامِ فِي الْمُنَافِقِينَ أَنْ يُعَامَلُوا بِحَسَبِ ظَوَاهِرِهِمْ وَمَا يَبْدُو مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَأَنَّ لِلْإِمَامِ الْأَعْظَمِ أَوْ عَلَيْهِ- وَمِثْلُهُ نُوَّابُهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْأُمُورِ- أَنْ يُعَرِّضَ فِي الْخُطَبِ الْعَامَّةِ وَالتَّصْرِيحَاتِ الرَّسْمِيَّةِ بِتَقْبِيحِ مَا يَعْلَمُ مِنْ سُوءِ أَعْمَالِهِمْ وَالْإِنْذَارِ بِسُوءِ عَوَاقِبِهَا لِيَعُدَّهُمْ لِلتَّوْبَةِ مِنْهَا، أَوِ الْحَذَرِ مِنْ إِظْهَارِ مَا يُضْمِرُونَهُ مِنَ الشَّرِّ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْعِقَابُ.
وَتَتَضَمَّنُ هَذِهِ السِّيَاسَةُ الْأُصُولَ الْآتِيَةَ:
الْأُصُولُ الثَّلَاثَةُ فِي حُرِّيَّةِ الدِّينِ، وَمُعَامَلَةِ الْمُنَافِقِينَ:
1- إِنَّ حُرِّيَّةَ الِاعْتِقَادِ وَالْوِجْدَانِ مَرْعِيَّةٌ لَا سَيْطَرَةَ عَلَيْهَا لِلرُّؤَسَاءِ الْحَاكِمِينَ، وَلَا لِلْمُعَلِّمِينَ وَالْمُرْشِدِينَ، وَإِنَّمَا لِهَؤُلَاءِ حَقٌّ فِي التَّرْبِيَةِ وَالتَّعْلِيمِ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَّهِمَ إِنْسَانًا بِإِضْمَارِ الْكُفْرِ وَلَا بِنِيَّةِ الْخِيَانَةِ لِمِلَّتِهِ أَوْ دَوْلَتِهِ، وَلَا بِإِرَادَةِ السُّوءِ لِقَوْمِهِ وَأُمَّتِهِ، وَلَا أَنْ يُعَاقِبَهُ عَلَى ذَلِكَ بِعِقَابٍ بَدَنِيٍّ وَلَا مَالِيٍّ، وَلَا بِحِرْمَانِهِ مِنَ الْحُقُوقِ الَّتِي يَتَمَتَّعُ بِهَا غَيْرُهُ مِنْ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ.
2- إِنَّهُ لَيْسَ لِمَنْ يُضْمِرُ الْكُفْرَ بِاللهِ أَوْ بِمَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلُهُ أَنْ يَكُونَ فِتْنَةً لِلنَّاسِ بِإِظْهَارِ ذَلِكَ لَهُمْ وَدَعْوَتِهِمْ إِلَيْهِ، أَوِ الطَّعْنِ فِي عَقَائِدِهِمْ، أَوْ إِظْهَارِ مَا يُنَافِيهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَعْوَةً وَلَا طَعْنًا، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَكَانَ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ يُحْكَمُ بِارْتِدَادِهِ وَخُرُوجِهِ مِنَ الْمِلَّةِ، إِنْ كَانَ مَا أَظْهَرَهُ مِنَ الْكُفْرِ صَرِيحًا قَطْعِيًّا مُجْمَعًا عَلَيْهِ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الشَّرْعِ مِنِ اسْتِتَابَتِهِ وَعِقَابِهِ إِنْ لَمْ يَتُبْ (وَمِنْهُ مَنْعُ التَّوَارُثِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَفَسْخُ نِكَاحِهِ بِالْمُسْلِمَاتِ، وَعَدَمِ تَشْيِيعِ جِنَازَتِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَدَفْنِهِ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ) لِأَنَّ حُرِّيَّةَ كُلٍّ أَحَدٍ فِي اعْتِقَادِهِ تَقِفُ عِنْدَ حَدِّ حُرِّيَّةِ غَيْرِهِ. وَلاسيما احْتِرَامِ عَقَائِدَ الْمِلَّةِ الَّتِي يَعِيشُ فِي ظِلِّ شَرِيعَتِهَا، وَسَائِرِ شَعَائِرِهَا وَعِبَادَاتِهَا.
وَلَيَعْلَمِ الْقَارِئُ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْفُقَهَاءِ قَدْ أَسْرَفُوا فِي أَبْوَابِ الرِّدَّةِ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي يُحْكَمُ فِيهَا بِالْكُفْرِ الْمُخْرِجِ مِنَ الْمِلَّةِ، وَبَنَوْا كَثِيرًا مِنْهُ عَلَى اللَّوَازِمِ الْبَعِيدَةِ، وَالْمُحْتَمِلَةِ لِلتَّأْوِيلَاتِ الْقَرِيبَةِ، وَمَا وَرَدَ فِي صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ: إِنَّ مَا كَانَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نِفَاقًا لَا يُنَافِي ظَاهِرَ الْإِسْلَامِ هُوَ الْآنَ كُفْرٌ مَحْضٌ لَا تُقْبَلُ مَعَهُ دَعْوَى الْإِيمَانِ، فَهَذَا قَوْلٌ بَاطِلٌ، فَكِتَابُ اللهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم هُمَا الْحُجَّةُ فِي الدِّينِ، وَالِاهْتِدَاءُ بِهِمَا هُوَ الْوَاجِبُ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، فَيَجِبُ قَبُولُ قَوْلِ كُلِّ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِمَا يُنَافِيهِ بِمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، وَمِمَّا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ احْتِمَالًا ظَاهِرًا جَمِيعُ الْمَبَاحِثِ الْعِلْمِيَّةِ الْمُخَالِفَةِ لِظَوَاهِرِ النُّصُوصِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْأُصُولِ.
3- إِنَّ مَنْ ظَهَرَ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ أَمَارَاتِ النِّفَاقِ الْعَمَلِيِّ فِي الدِّينِ، أَوِ الْخِيَانَةِ لِلْأُمَّةِ وَالْمِلَّةِ بِمَا هُوَ غَيْرُ صَرِيحٍ، مِمَّا لَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ فِي الشَّرْعِ بِحَدٍّ وَلَا تَعْزِيرٍ، فَلِوَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يَعِظَهُ بِالتَّعْرِيضِ، ثُمَّ بِالتَّصْرِيحِ وَالتَّكْشِيفِ، وَلَهُ أَنْ يُعَاقِبَهُ بِمَا يُرْجَى أَنْ يَزَعَهُ عَنْ غَيِّهِ مِنَ التَّأْدِيبِ، كَالْحِرْمَانِ مِنْ مَظَاهِرِ التَّشْرِيفِ، أَوِ الْإِزْوِرَارِ وَالتَّقْطِيبِ، أَوِ التَّأْدِيبِ وَالتَّعْنِيفِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} (9: 73) وَمِنْهُ حِرْمَانُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِلَّذِينِ تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ مِنَ الْخُرُوجِ مَعَهُ إِلَى غَزْوَةٍ أُخْرَى بِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا} (9: 83) الْآيَةَ.
وَلَكِنَّ الْمُلُوكَ الْمُسْتَبِدِّينَ يُقَرِّبُونَ إِلَيْهِمُ الْمُنَافِقِينَ فَيَزِيدُونَهُمْ فَسَادًا، وَيُجَرِّئُونَ غَيْرَهُمْ بَلْ يُرَغِّبُونَهُ فِي النِّفَاقِ وَخِيَانَةِ الْأُمَّةِ جِهَارًا، حَتَّى إِنَّ الْمَنَاصِبَ الدِّينِيَّةَ الْمَحْضَةَ صَارَتْ تُنَالُ بِالنِّفَاقِ، وَيُذَادُ عَنْهَا أَهْلُ الصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ، وَإِلَى اللهِ الْمُشْتَكَى وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.
انْتَهَى بَيَانُ مَا فَتَحَ اللهُ بِهِ عَلَيْنَا مِنْ خُلَاصَةِ هَذِهِ السُّورَةِ وَكُتِبَ فِي أَوْقَاتٍ مُتَقَطِّعَةٍ فِي سَنَةٍ عَسِرَةٍ شَدِيدَةٍ.
(وَتَمَّ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ 1350). اهـ.

.ومن فوائد الزمخشري في الآيات:

قال رحمه الله:

.[سورة التوبة: آية 122]

{وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} اللام لتأكيد النفي. ومعناه أن نفير الكافة عن أوطانهم لطلب العلم غير صحيح ولا ممكن.
وفيه أنه لو صح وأمكن ولم يؤدّ إلى مفسدة لوجب، لوجوب التفقه على الكافة، ولأنّ طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة {فَلَوْلا نَفَرَ} فحين لم يمكن نفير الكافة ولم يكن مصلحة فهلا نفر {مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ} أي من كل جماعة كثيرة جماعة قليلة منهم يكفونهم النفير {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} ليتكلفوا الفقاهة فيه، ويتجشموا المشاق في أخذها وتحصيلها {وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ} وليجعلوا غرضهم ومرمى همتهم في التفقه: إنذار قومهم وإرشادهم والنصيحة لهم، لا ما ينتحيه الفقهاء من الأغراض الخسيسة ويؤمّونها من المقاصد الركيكة، من التصدّر والترؤس والتبسط في البلاد، والتشبه بالظلمة في ملابسهم ومراكبهم ومنافسة بعضهم بعضًا، وفشوّداء الضرائر بينهم، وانقلاب حماليق أحدهم إذا لمح ببصره مدرسة لآخر، أو شر ذمة جثوا بين يديه، وتهالكه على أن يكون موطأ العقب دون الناس كلهم، فما أبعد هؤلاء من قوله عزّ وجل: {لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَسادًا}. {لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} إرادة أن يحذروا اللّه فيعملوا عملا صالحًا. ووجه آخر: وهو أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان إذا بعث بعثا- بعد غزوة تبوك وبعد ما أنزل في المتخلفين من الآيات الشداد- استبق المؤمنون عن آخرهم إلى النفير وانقطعوا جميعًا عن استماع الوحى والتفقه في الدين، فأمروا أن ينفر من كل فرقة منهم طائفة إلى الجهاد ويبقى أعقابهم يتفقهون، حتى لا ينقطعوا عن التفقه الذي هو الجهاد الأكبر، لأن الجدال بالحجّة أعظم أثرًا من الجلاد بالسيف. وقوله: {لِيَتَفَقَّهُوا} الضمير فيه للفرق الباقية بعد الطواف، النافرة من بينهم، {وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ} ولينذر الفرق الباقية قومهم النافرين إذا رجعوا إليهم بما حصلوا في أيام غيبتهم من العلوم وعلى الأوّل الضمير للطائفة النافرة إلى المدينة للتفقه.

.[سورة التوبة: آية 123]

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)}
{يَلُونَكُمْ} يقربون منكم، والقتال واجب مع كافة الكفرة قريبهم وبعيدهم، ولكن الأقرب فالأقرب أوجب. ونظيره {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} وقد حارب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قومه، ثم غيرهم من عرب الحجاز، ثم غزا الشأم. وقيل: هم قريظة والنضير وفدك وخيبر.
وقيل: الروم، لأنهم كانوا يسكنون الشام والشام أقرب إلى المدينة من العراق وغيره، وهكذا المفروض على أهل كل ناحية أن يقاتلوا من وليهم، ما لم يضطر إليهم أهل ناحية أخرى.
وعن ابن عمر رضى اللّه عنه أنه سئل عن قتال الديلم؟ فقال: عليك بالروم. وقرئ {غِلْظَةً} بالحركات الثلاث، فالغلظة كالشدّة، والغلظة كالضغطه، والغاظة كالسخطة ونحوه {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} {وَلا تَهِنُوا} وهو يجمع الجرأة والصبر على القتال وشدّة العداوة والعنف في القتل والأسر، ومنه {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ}. {مَعَ الْمُتَّقِينَ} ينصر من اتقاه فلم يترأف على عدوّه.

.[سورة التوبة: الآيات 124- 125]

{وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيمانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيمانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (125)}
{فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ} فمن المنافقين من يقول بعضهم لبعض {أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ} السورة {إِيمانًا} إنكارًا واستهزاء بالمؤمنين واعتقادهم زيادة الإيمان بزيادة العلم الحاصل بالوحي والعمل به.
و{أيكم}: مرفوع بالابتداء.
وقرأ عبيد بن عمير: {أيكم}، بالفتح على إضمار فعل يفسره {زادَتْهُ} تقديره: أيكم زادت زادته هذه إيمانا {فَزادَتْهُمْ إِيمانًا} لأنها أزيد لليقين والثبات، وأثلج للصدر. أو فزادتهم عملا، فإن زيادة العمل زيادة في الإيمان، لأنّ الإيمان يقع على الاعتقاد والعمل {فَزادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} كفرًا مضموما إلى كفرهم، لأنهم كلما جدّدوا بتجديد اللّه الوحى كفرًا ونفاقا، ازداد كفرهم واستحكم وتضاعف عقابهم.

.[سورة التوبة: الآيات 126- 127]

{أَوَ لا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (127)}
قرئ: {ولا يرون}، بالياء والتاء {يُفْتَنُونَ} يبتلون بالمرض والقحط وغيرهما من بلاء اللّه ثم لا ينتهون ولا يتوبون عن نفاقهم، ولا يذكرون، ولا يعتبرون، ولا ينظرون في أمرهم، أو يبتلون في الجهاد مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ويعاينون أمره وما ينزل اللّه عليه من نصرته وتأييده. أو يفتنهم الشيطان فيكذبون وينقضون العهود مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيقتلهم وينكل بهم، ثم لا ينزجرون {نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ} تغامزوا بالعيون إنكارًا للوحى وسخرية به قائلين: {هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ} من المسلمين لننصرف، فإنا لا نصبر على استماعه ويغلبنا الضحك، فنخاف الافتضاح بينهم. أو ترامقوا يتشاورون في تدبير الخروج والانسلال لو إذا يقولون: هل يراكم من أحد. وقيل: معناه: إذا ما أنزلت سورة في عيب المنافقين {صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} دعاء عليهم بالخذلان وبصرف قلوبهم عما في قلوب أهل الإيمان من الانشراح {بِأَنَّهُمْ} بسبب أنهم {قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} لا يتدبرون حتى يفقهوا.